افتتاحية العدد 28 لمجلة الصحافة حول موضوع “قيمة الصحافة في العصر الرقمي”
قبل عقود كان الصحفي صاحب السلطة الوحيد في الإخبار بحكم “الطبيعة النخبوية” لمهنة الصحافة، لكن الثورة التكنولوجية وموجة العولمة أفرزت تحولات جديدة أبرزها فقدان احتكار المعلومات بشكل نهائي أمام التطور الهائل لوسائل التواصل الاجتماعي.
في سياق هذا التحول الجذري، كان على الصحافة أن “تعيد اختراع نفسها” في مواجهة خطر الموت والاندثار، وتزامن مع ذلك، ظهور تحديات كبيرة تسائل قيم الصحافة الجوهرية.
لقد أصبحت الصحافة في العصر الرقمي أكثر قدرة على الانتشار والتأثير في زمن المنصات الرقمية، بيد أن التحدي الأكبر الذي أحدثته الثورة الرقمية هو زيادة سرعة الإنتاج التي تلقي بأعباء ثقيلة على جودة المعلومات، والاتجاه نحو المحتوى السطحي، بل وثمة أخطاراً أكبر في ارتكاب الأخطاء وعدم التحقق من المعلومات.
دفعت السرعة في الإنتاج واحتدام المنافسة القادمة من وسائل التواصل الاجتماعي ومن وسائل الإعلام وصناع المحتوى، مؤسسات إعلامية كبرى إلى التخلي عن الآلية التقليدية في الاختيار: العمق والقدرة على البحث.
على هذا النحو، ظهر شباب متحمسون، متفانون في الشغل، بأجور متوسطة قادرون على القيام بكل شيء: التحرير، الكتابة، مونتاج الفيديو والصوت، الإلمام بطرق النشر على وسائل التواصل الاجتماعي، المهارات التقنية، وأخيرا التسويق.. بشكل أكثر وضوحا: اختصروا هيكل إنتاج الإنتاج في غرف الأخبار في مهمة واحدة.
هل هؤلاء صحفيون؟ هل يحافظون على قيم الصدق والنزاهة والبحث عن الحقيقة؟ ما علاقتهم بالمصادر؟ كيف يتمثلون دور الميدان؟ هل معلوماتهم دقيقة وغير مضللة؟ وهل يصنعون ما يحبه الجمهور فقط، أم يتمثل دورهم في الإبلاغ عن الحقيقة؟
في العصر الرقمي حيث تسود القيم التجارية والبحث السريع عن الربح المادي، أصبحت قيم المهنة موضع مساءلة حقيقية؛ فالتأثير الذي تحدثه بعض التحقيقات الاستقصائية أو التسريبات ذات الانتشار الواسع، لا يمكن أن يخفي واقع تراجع محاسبة السلطة ومراقبة الشأن العام، ولا يمكن أن يخفي أيضا الانتهاك المستمر لأخلاقيات المهنة بسبب الفروق الضئيلة بين ما ينبغي وما لا ينبغي نشره. والأهم من كل ذلك، فصل قضايا مجتمعية معقدة واجتزاؤها من سياقاتها الثقافية والتاريخية؛ لأن طبيعة النشر تفرض ذلك.
الصحافة بنت السياق وبنت الميدان أيضا، واليوم ثمة وهم كبير رسخه جزء من الصحافة الرقمية وهو أنه يمكن التخلي عن الميدان، وألا حاجة في عصر البيانات الضخمة والمصادر المفتوحة للبحث والنزول إلى الميدان رغم أنه يحمي الصحفيين من تحيزاتهم وأحكامهم المسبقة مثلما حدث قبل تنظيم مونديال قطر 2022 وبعده.
الصورة ليست سوداء تماما وليست وردية تماما، ذلك لأن قيم الصحافة تتعرض لما يشبه “تقليم الأظافر”، رغم أنه يمكن استثمار التطور التقني لخدمة وظيفة الصحافة الأولى والأخيرة: البحث عن الحقيقة.
المصدر: مجلة الصحافة