بقلم: عبد المنعم عجب الفيا
أما قول جابر عصفور بأن رواية موسم الهجرة الى الشمال تتشابه مع رواية جوزيف كونراد الى درجة وقع الحافر على الحافر ، لا يعدو كونه ، شطحة نقدية ، وقراءة غير صائبة لاشارات ادوارد سعيد عن المقارنة بين الروايتين. إذ لا يوجد إي تشابه بين اي ثيمة من ثيمات الروايتين.
فالمعروف أن رواية (قلب الظلام ) تبدأ بمجموعة من الرجال البيض يتسامرون على قارب شراعي على نهر الثيمز بلندن . يبدأ احد هؤلاء الاصدقاء بان يقص عليهم تجربة بحار يدعى مارلو سافر الى افريقيا وتحديدا الى الكنغو للالتحاق باحدي الشركات البلجيكية للعمل هنالك . في طريق وصوله الى هنالك تصادفه بعض الاحداث من قبل البلجيكيين ضد السكان المحليين تجعله يتشكك في المهمة الحضارية التي يزعم الرجل الابيض انها تعطيه الحق في اخضاع افريقيا لحكمه وسيطرته لاخراجها من الظلامات الى النور .
عندما يصل مارلو الى الكنغو تكلفه الشركة التجارية بالذهاب الى اعماق نهر الكنغو لانقاذ تاجر ابيض مريض يدعى كيرتز وهو اهم عملاء الشركة واكبر المزودوين لها بالعاج ( سن الفيل ). وقد اقام ذلك التاجر محمية له لتجارة العاج هنالك ونصب نفسه سيدا وصار يتصرف كإله بين الاهالي الى درجة انه زين سياج بيته من جماجم المتمردين الذين يخرجون عن طاعته. ولكن فجاة يصحو ضمير كيرتز المتجبر المتسلط ، فيصاب باضطراب نفسي ويمرض وعندما يصل مارلو اليه يجد ان المرض اخذ منه كل ماخذ ثم ما يلبث ان يموت بعد لقائه له .
وكانت اخر الكلمات التي نطق يها كيرتز : “الرعب! الرعب ! ” بعد موت كيرتز يعود مارلو الى بلجيكيا حيث يلتقي خطيبتة كيرتز التي حزنت عليه حزنا شديدا . وحينما سالت مارلو عن اخر الكلمات التي نطق بها كيرتز لم يشاء أن يخبرها بالحقيقة ويقول لها ان آخر كلماته كانت :” الرعب! الرعب! ” وانما قال لها ان اخر كلماته كانت : اسمك . وهكذا تنتهي الرواية .
فاين التشابه الذي يبلغ وقع الحافر على الحافر بين ثيمات رواية موسم الهجرة وقلب الظلام ؟ إن زبدة حديث ادوارد سعيد في كتابه Culture and Imperialism ” الثقافة والامبريالية 1993 ” هي قوله ان العلاقة بين الروايتين علاقة معكوسة. بمعنى أن نص موسم الهجرة الى الشمال مواز لنص رواية قلب الظلام من حيث مقاربة الروايتين لموضوعة الاستعمار الاوربي لافريقيا.
وقد وضع دكتور محمد شاهين يده على مفصل حديث ادوارد سعيد في مقالته المنشورة بمجلة العربي والمشار اليها آنفا عندما قال : ” علق إدوارد سعيد على موسم الهجرة الى الشمال قائلا إنها أنموذج رائع بل خطاب محكم للرد على خطاب الاستعمار إذ يعتقد سعيد أن خير رد على خطاب الاستعمار هو خطاب مواز يستطيع النفاذ الى ذلك الخطاب write back اي الرد بالمثل على خطاب الاستعمار تجنبا لما يمكن ان نقع فيه من سلبية الرد بسباب او شتيمة . ”
وأقول إن التوازي بين الرواتين وليس التطابق ، تفرضه حقيقة ان كل رواية مستلهمة من تجربة حياتية واقعية مختلفة عن الأخرى. فالطيب صالح كان يصدر عن تجربته الشخصية في لندن في فترة ما بعد الاستعمار الأوربي ، وجوزيف كونراد كان ايضا يصدر عن تجربة شخصية عاشها في الكونغو في وقت كان فيه الاستعمار الأوربي لافريقيا في أوج نشاطه.
لذلك ان مقاربة الاستعمار التي تجمع بين الروايتين صادرة من قاهر ومقهور ومن هنا ياتي الاختلاف بين الثيمات . في قلب الظلام نجد كيرتز يخوض تجربة الاستعمار كمستعمر (بالكسر ) بينما مصطفى سعيد في رواية الطيب صالح ، يخوض التجربة كمستعمر (بالفتح). واذا كان كونراد نظر الى الاستعمار كعمل بشع ولا انساني وغير حضاري ولا بد من ان ينتهي متخذا من موت كيرتز علامة على نهايته الحتمية . فان فشل مصطفى سعيد في الانتقام والثار لكرامته من المستعمر بذلك الاسلوب الذي وصفته الرواية بالالتواء ، تمثل اشارة من الطيب صالح على ضرورة تجاوز مرارات التجربة الاستعمارية والانهماك في معركة التعمير والرقي من خلال العلم والعقل والتعايش السلمي والاحترام الثقافي المتبادل.
علاوة على ان مقولة وقع الحافر على الحافر ، اجترحت أصلا لنقد الشعر العربي القديم وقامت عليها الموازانات والسرقات . وقد أفسدت هذه المقولة الذائقة النقدية العربية وحولت أجود الشعراء مثل ابوتمام : رائد الحداثة الشعرية العربية كما يصفه ادونيس ، الى مجرد سارق وما هو بذلك. وقد ثار ابو تمام على ذلك التقليد النقدي القاتل للابداع قائلا: ” طريقة القول أهم مما يقال ” اي طريقة الاداء الادبي والابداعي عموما أهم من المضمون وبذلك سبق كل منظرو الحداثة الاوربية وما بعدها في تغليب الدال على المدلول . والى ذلك ذهب الجاحظ فقال ان المعاني والافكار والموضوعات مبذولة على قارعة الطريق وانما يتمايز الادباء والشعراء في الصياغة لا في المعاني. وبهذا أخذ عبد القاهر الجرجاني فابتدع نظرية النظم وقال ان سر الأدب والشعر يكمن في النظم اي في الصياغة (الدال ) .
فكيف اذن يسترجع جابر عصفور ، مقولة وقع الحافر على الحافر ليصف بها مقاربة الروايتين لموضوعة الاستعمار ، ودونه نظريات الحداثة وما بعد الحداثة التي يقيم المعارك الادبية من أجلها ويستميت في سبيلها ، فهذه النظريات تهزأ من مفاهيم ، الابداع ، والاصالة ، وتستبدلها ، بالتناص والتكرارية والعود الابدي ، وموت المؤلف ، لتنتهي بنا الى ان الابداع كله وقع حوافر على حوافر !!
(رابط المقال في أول تعليق)
#ذكرى-رحيل-الطيب_صالح