عن «أنبياء» يوتيوب و«أديان» الفضاء السيبيريّ … بداية انتصار «الخلق الثاني»
ندى حطيط*
يسميها الفيلسوف المعاصر أخيل مبمبي «الخلق الثاني» أي تلك المرحلة من تاريخ عالمنا، التي لم يعد فيها إنتاج الشخصيات الإنسانيّة محتاجاً إلى الهواء والتنفس، والماء والنار، والغبار والرياح، والأشجار والنباتات والحيوانات والليل والنّهار.
فمع توسّع هيمنة الشبكات السيبرانية في العالم، صار متاحاً خلق الشخصيات وبناء صيرورة (تواجدها) في الحلول التقنية والشاشات التفاعلية وتطبيقات التواصل الاجتماعي المتعددة والمتقاطعة.
لقد أصبحت هذه الأشياء في زمن «الخلق الثاني» كما بوتقة حقيقية تصاغ فيها الرؤى والمعتقدات، وتصنع الأوهام الجمعيّة وتطلق منها الأديان التكنولوجية المعاصرة وينبعث على أثيرها أنبياء الصورة الجدد، بدءاً بالخلق نفسه، بدون طين وماء، ومن ثمّ ابتداع أشكال جديدة من التّجسد، والتفرّد، والتّجلي، والتّناسخ، والصعود، والخلود وحتى الموت الافتراضي عبر عمليّات شديدة التعقيد تجرى حصراً في سماء الذكاء الاصطناعي دون شهود، وبسرعة لم تعد العقول البشريّة بقادرة على إدراكها.
فجوة بين جيلين تتسرب منها الأوهام
يتعايش في هذا الكوكب اليوم جيلان. جيل مخضرم عاش فترة من حياته في العالم التقليدي للفضاء الحيوي قبل أن ينتقل تدريجيّاً إلى الدّنيا السيبيريّة الجديدة، جالباً معه أنساق تفكيره ومعتقداته وأنبياءه التي أنتجها في «الخلق الأوّل» وجيل شاب ولد وكبر وبنى أفكاره واعتقاداته وأنبياءه كليّة في تلك الدنيا السيبيريّة ويتطلّع إلى وجوده ويفهم العالم من خلال الشاشات.
بالطبع هنالك ملايين من البشر، ربّما ما زالوا خارج التكنولوجيّات الحديثة، لكن هؤلاء أصبحوا عمليّاً غير موجودين، مهمشين خارج العمليّات الأساسيّة لهذا الكوكب، وهم اليوم في عداد المنقرضين، لا سيّما بعدما فرضت جائحة كوفيد 19 فصلاً حادّاً بين من هم أميين تكنولوجيّاً، وبقيتنا وما بين الجيلين المخضرم والشاب فجوة تصورات عن العالم اتسعت ولم يعد بالإمكان تجاهلها بعدما شرعت الأوهام التي ينتجها «الخلق الثاني» في التسرّب إلى أرض الواقع الموضوعيّ نفسه، حقائق تنافس في حضورها منتجات «الخلق الأوّل» الملموسة.
ليس هذا كلاماً نظريّاً محضاً قد يتردد في الأجواء الأكاديميّة وحلقات المتفلسفين، بل هو وصف بأدوات لغتنا المحدودة لظاهرة صدمت فرنسا خلال العام الماضي، وفرضت جدلاً غير مسبوق بين الجيلين بعدما تطاير الشرر من تداخل العالمين اللذين بقيا متوازيين دون التقاء صريح حتى وقت قريب. إنها لينا سيتيويشنز.
لقاء عاصف بين عالمين متوازيين
لينا سيتيويشنز، هي نجمة من أجواء وسائل التواصل الاجتماعي الفرنكوفوني بالكاد أتمت عامها 23. في العام الماضي وأجواء العزلة والإغلاق التي فرضت على فرنسا بسبب تفشي فيروس كورونا، حصدت الملايين من الأتباع الجدد بين المراهقات والفتيات في بداية العشرينات من أعمارهن: 2 مليون متابع على موقع يوتيوب، و3 ملايين متابع آخر على إنستغرام، وتوّجت بجائزة «اختيار الناس» وهي جائزة ذات شعبيّة متزايدة بين الشبان تمنح لنجوم شرائط الفيديو على الأنترنت. لينا سيتيويشنز – واسمها الحقيقي لينا محفوظ وهي من أصل جزائري – ًذاع صيتها في فرنسا من خلال مشاركتها عبر مواقع التواصل لنصائح الموضة والأناقة وتقديم الاقتراحات لعيش حياة إيجابية.
وهذا طبعاً ليس جديداً ولا مقتصراً عليها، إذ أنّ عالم الإنترنت متخم منذ بعض الوقت بالنجوم المليونيين الذين ربما لم يسمع بأسمائهم أبناء الجيل المخضرم، لكنهم يملأون الدّنيا السيبيريّة ويشغلون ناس الجيل الجديد من خلال تقديم النصائح حول الماكياج والملابس، والحكايات الشخصية حول العلاقات أو الصحة النفسيّة والعواطف.
لكن الجديد أن لينا قررت في الخريف الماضي أن تنقل (مزاميرها) إلى العالم الحقيقيّ من خلال تجميعها في كتاب مطبوع دفعت به إلى الأسواق.
«دائماً أكثر»: الفراغ على قيد الورق
دار النشر التي تولّت نشر كتاب لينا المعنون «دائما أكثر» طبعت 20 ألف نسخة وزعتها على المكتبات. لكن المفاجأة كانت أنها نفذت جميعاً خلال أيّام قليلة، لتسارع الدار إلى طبع عشرات الآلاف من النسخ بعد أن تصدّر الكتاب قوائم مبيع الكتب (غير الروائيّة) في فرنسا لمدة ستة أسابيع على التوالي، قبل أن يتراجع إلى المركز الثاني فقط بعد ظهور المجلد الأول من مذكرات باراك أوباما «أرض موعودة».
وانتشرت صور لينا وكتابها في إعلانات الطرقات والأماكن العامة مما ضاعف فضول كثيرين لمعرفة المزيد، وتحدثت البرامج التلفزيونيّة عن لينا – رائدة الانتقال من العالم الافتراضي إلى العالم الواقعيّ التي باعت إلى الآن نسخاً أكثر من معدل المبيعات الذي تحصل عليه رواية حاصلة على جائزة غونكور الفرنسيّة الرفيعة.
هذه النتيجة المذهلة أصابت المؤسسة الثقافيّة / الأدبيّة الفرنسيّة بالدّهشة، ثمّ جاء ردّ الفعل من أبرز شخصياتها: الروائي فريدريك بيغبيدر – وهو أحد الكتاب الأكثر مبيعاً في سوق الرواية الفرنسيّة وعضو في لجان تحكيم عدد من الجوائز الأدبيّة المرموقة في العشرين سنة الأخيرة – فكتب في يوميّة الـ»فيغارو» يقول عن «دائماً أكثر» «147 صفحة من اللاشيء. 19.5 يورو – سعر بيع النسخة – ذهبت إلى القمامة».
وأضاف «بين الوجود والعدم، لينا سيتيوويشنز تميل من فورها إلى الخيار الثاني» وأن «الشابة المؤلفة المسكينة ضحيّة من عديد ضحايا مارك زوكربيرغ – مؤسس موقع فيسبوك».
مقالة بيغبيدر أثارت عاصفة على وسائل التواصل الاجتماعي الفرنسية لم تهدأ بعد وتحديداً من متابعي السيدة محفوظ، ولكن أيضاً من شبان فرنسيين كثيرين اعتبروا أن لمسة من الفوقيّة والتحيز الجنسي غلفت نقده للينا، وانتقد كثيرون ما أسموه بحراس بوابة الشهرة الأدبيّة في فرنسا المنعزلين عن عالم الجيل الجديد تماماً، وقال معلقون على برامج تلفزيونيّة إن السيّد بيغبيدر وأمثاله من الحرس القديم قد يكونون شعروا بالتهديد من النّجاح الساحق الذي حققه «دائما أكثر» وندد بعضهم بشعور الازدراء والتجاهل الذي يمارسه الجيل المخضرم ضد المحتوى الذي يبرز على مواقع التواصل الاجتماعي لا سيّما إذا كان من أنثى وشابة ومن أصول أفريقيّة.
صناعة النجوم على حدود الجدل
في أجواء هذا الانتقال في الاتجاه العكسيّ من الافتراضيّ إلى الواقعي، بدأت صناعة النّجوم تنتقل بدورها تدريجيّاَ من وسائل الإعلام التقليديّة إلى الإعلام الجديد. فقبل أقل من عام تقريباً كانت لينا سيتيويشنز ضيفة على منصّة بلمان للأزياء على يوتيوب التي يديرها صحافي أزياء معروف في عالم الموضة يدعى لوي بريجنت. كانت وقتها غير معروفة نسبيا، وترتدي ملابس من ماركات تجارية شعبيّة، ولكن حماسها وروح الدعابة لديها جلبت اهتمام دور الأزياء الكبرى مثل «إيف سان لوران» و»ديور» التي شرعت ترسل لها عينات من أحدث منتجاتها لتبدو في إطلالات لينا متناثرة خلفها في غرفتها وهو ما منحها قيمة وثقة أكبر في أذهان المراهقات الفرنسيّات.
لكنّها رفضت لاحقاً عروضاً لدور صغير في فيلم سينمائي أو حتى كمقدّمة برنامج تلفزيونيّ للشباب. وعلقت على ذلك بقولها: «الشبكات الاجتماعية هي أولويتي الأولى، حيث أنا هناك الأكثر حرية وسعادة، كما أنّ الإنترنت لن تختفي في أي وقت قريب».
لينا سيتيويشنز، ليست أولى «مبشرات» يوتيوب أو عرافة «أديان» الفضاء السيبيريّ الوحيدة، لكنها كسرت بانتقالها الصاعق بين عالمي «الخلق الأوّل» و»الخلق الثاني» حاجزاً ما ظننا أنّه سيكسر.
إعلامية وكاتبة لبنانية – لندن
عن القدس العربي