كتب| حامد الناظر يناقش كتاب المفكر السياسي الروسي المثير للجدل ألكسندر دوغين “الجغرافيا السياسية لما بعد الحداثة “

حبل الغسيل
ما بعد الحداثة

– حامد الناظر

 

هذا أثر مهم للكاتب والمفكر وعالم الاجتماع السياسي والفيلسوف الروسي المثير للجدل “ألكسندر دوغين ١٩٦٢- ” الذي تُنسب إليه الانعطافة الحادة لروسيا الجديدة في عهد فلاديمير بوتين، ويوصف في دوائر كثيرة بأنه “عقل بوتين” وأنه صاحب رؤية قومية متطرفة تشكل رؤية بوتين للعالم.

يناقش الكتاب الموسوم بـ “الجغرافيا السياسية لما بعد الحداثة – عصر الإمبراطوريات الجديدة” وبعنوان ثانوي “الخطوط العامة للجغرافيا السياسية في القرن الحادي والعشرين” يناقش التغييرات الجيوسياسية في عصر الانفتاح والعولمة (ما بعد الحداثة) ونظرة الكاتب الكلية للنظام العالمي الجديد بعد الحرب الباردة، وتصوراته بشأن خلق أقطاب جديدة في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية التي تنفرد بالهيمنة على العالم. الكتاب من ترجمة إبراهيم استنبولي، ونشر في يونيو ٢٠٢٢ ضمن سلسلة “ترجمان” التي يقوم عليها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة.

يقسم الكاتب خريطة العالم إلى كتلتين كُبريين “حضارة البحر” والتي تمثلها الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها الأوربيون حول الأطلسي، و”حضارة البر” التي تمثلها منطقة أوراسيا التي يقع منها الاتحاد السوفييتي السابق بمنزلة النواة الصلبة. انتصرت الأولى على الثانية مع نهاية الحداثة “عصر الصناعة” وفرضت شروطها للعصر التالي، ما بعد الحداثة “عصر العولمة” الذي ابتلع العالم وراح يهضمه على مهل، غير آبه لا بالاختلافات الحضارية ولا بالعواقب.

يقول دوغين “وقد كانت جميع الحروب التي جرت خلال القرون الأخيرة بما في ذلك الحربان العالميتان في القرن العشرين نتيجة لهذا الصراع بين البر والبحر. وإذ فاز البحر على اليابسة في الحرب الباردة، فإن البحر يخطط للقضاء علينا بصورة نهائية. فلماذا يجب علينا أن نحبه؟ نحن نريد أن نولد من جديد وأن ننهض من بين الرماد والدمار، نريد أن نعود إلى التاريخ. لذلك نحن لا نحب أميركا”!

هذا مفكر متطرف بلا شك، ولديه موقف مبدئي وعدائي مع كل ما هو أمريكي، على المستويات كافة، السياسية والاقتصادية والتكنولوجية والثقافية، وفوق كل ذلك الحضارية، وكاره لها أيضًا، وفي الوقت نفسه غير واثق من قدرة روسيا على المواجهة. يقول إن أمريكا نشأت في فراغ كبير وراء الأطلسي، من دون جذور ثقافية أو حضارية راسخة، وقامت من دون أي ثقافة وطنية أو قومية، وخلقت نموذجها الليبرالي الخاص “بطريقة مخبرية” ثم غزت به العالم من دون أية قيود أخلاقية أو مثل عليا.

إنه عصر “ما بعد الحداثة” بحسب دوغين، حيث تسيطر التكنولوجيا والإنترنت على العالم، وتفرض الولايات المتحدة من خلالها هيمنتها الناعمة والافتراضية على العالم بتصدير ثقافة مسطحة ونمط محدد من السلوكيات يقوم على مفاهيم جديدة للجنس والتجارة والعلاقات العائلية والتواصل الإنساني، وتديره حكومة عالمية واحدة، تتعامل مع جموع البشر في كل مكان على أنهم مجرد حشود جائعة لهذه الثقافة التي نبعت من اللاشيء وتتقدم نحو فراغ افتراضي مرعب!

وهنا يطرح الكاتب تصوره لمقاومة هذا العصر الجديد بالفكرة الأوراسية كمفهوم فلسفي له أبعاد مضادة للعولمة الأمريكية وبالتالي فإن العالم كله باستثناء الولايات المتحدة الأمريكية يقع ضمن مفهوم الأوراسية عن طريق التكامل فيما يسميه “الفضاءات الحضارية المغايرة” بما فيها أوروبا وآسيا والمحيط الهاديء وإفريقيا وأمريكا اللاتينية والعالم الإسلامي، ومن ثم، وبالضرورة أن تصبح الأوراسية عقيدة داخل روسيا، لها فلسفتها ومغزاها، وتطبق كنموذج مصغر داخل روسيا نفسها.

قال دوغين في العام ٢٠٠٤ في حوار منشور ضمن ملحقات هذا الكتاب”إذا أقدمت كييف على التقارب مع الناتو، سوف تسبب تمرد الجزء الشرقي من أوكرانيا (يقصد الأقاليم الأربعة) ويمكن العثور على حل عن طريق نقل العلاقات الثنائية إلى مستوى آخر من اللغة العملياتية. يجب على روسيا أن تتصرف، لا كروسيا وإنما على أنها أوراسيا، أي على أنها مصفوفة حضارية وليس باعتبارها بلادًا أو دولة”! وهذا ما يحدث بالضبط، ويلخص جوهر الصراع الدائر على الأرض الأوكرانية اليوم.

أعتقد جازمًا أن الاطلاع على هذا الكتاب لا غنى عنه لمن أراد أن يفهم السياقات التي تجري فيها هذه الحرب، ورغبات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من وراء هذه المخاطرة الكبرى بالدخول في حرب شبه مفتوحة مع حلف الناتو. هذه لعبة جغرافيا سياسية يريد بوتين أن يضع شروطها الجديدة مسبقًا ويتحكم في نتائجها لاحقًا، وهي باختصار الجانب العملي من الفكرة “الأوراسية” كما تصورها ونظّر لها صاحب هذا الكتاب “ألكسندر دوغين” قبل نحو عقدين.

حامد الناظر

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.