إبراهيم نوار
يعتزم ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان قريبا، زيارة خمس من دول شرق البحر المتوسط. هذه الدول هي تركيا وقبرص واليونان والأردن ومصر، وقد يزور بن سلمان الجزائر أيضا.
الدول الخمس الشرق متوسطية بامتياز، تشمل ثلاثة بلدان غير عربية، وبلدين عربيين، وهي جميعا، باستثناء تركيا، أعضاء في «منتدى الغاز لدول شرق المتوسط»، الذي يقع مقره في القاهرة.
كما ترتبط تلك الدول (باستثناء تركيا)، باتفاقيات تعاون ثنائية ومتعددة الأطراف، سياسيا واقتصاديا وعسكريا، وشاركت كلها أو بعضها أكثر من مرة في مناورات عسكرية مع دول أخرى من بينها إسرائيل والإمارات والولايات المتحدة وفرنسا.
تركيا التي تحاول منذ فترة إعادة ترميم جسورها مع دول شرق المتوسط، بما فيها إسرائيل، حققت فعلا بعض النجاح في محاولات التقارب مع مصر والسعودية وإسرائيل والإمارات. لكن عوامل التوتر في علاقاتها بتلك الدول ما تزال قائمة بسبب التدخل العسكري في العراق وسوريا، وغموض موقفها في ليبيا.
كما أن علاقات تركيا مع قبرص واليونان، سيئة بدرجة «حدث ولا حرج»، مشحونة بعوامل توتر تاريخية سياسية واقتصادية، خصوصا في ما يتعلق بحقوق التنقيب عن النفط والغاز في حوض شرق المتوسط.
السؤال المهم في الرحلة شرق المتوسطية المرتقبة لولي العهد السعودي هو:
هل تكون السعودية عاملا يغير قواعد اللعبة في شرق المتوسط game changer؟
أم هل تكون جولته مجرد تكرار لتفاصيل المشهد، تسهم في تكريس الوضع القائم؟
المطلوب فعلا من السعودية أن تستخدم وزنها الاقتصادي في توفير حوافز لتهدئة التوتر وتخفيف حدة الانقسام الإقليمي، والمساعدة على الوصول إلى «نقطة توازن مستقر» تسمح بإقامة نظام بديل لحالة «اللانظام» المزمنة في المنطقة، وتحويل نفوذها الاقتصادي إلى قوة سياسية.
وزن سياسي يعادل الاقتصادي
تدرك السعودية أن حجمها السياسي الإقليمي لا يوازي حجمها الاقتصادي، وأنها يجب أن تعمل من أجل تحقيق وزن سياسي إقليمي يكافئ وزنها الاقتصادي.
ولماذا لا؟
لماذا لا وهي الملاذ الأخير عندما تشتد الأزمات في الدول المجاورة، مثل مصر ولبنان وتونس والسودان؟
ولماذا لا بينما غيرها، من داخل المنطقة وخارجها، يتقدم يمينا وشمالا وشرقا وغربا لتحسين مواقعهم على خريطة النفوذ في المنطقة؟
وهل تبقى السعودية حبيسة في صراعات البحر الأحمر والخليج، بينما هي العضو العربي الوحيد في مجموعة العشرين التي تمثل مجلس الإدارة الموسع للعالم؟
ولماذا لا والنظام العالمي بأكمله في حال انعدام وزن، يبحث لنفسه عن توازن جديد للقوى عند نقطة جديدة بعيدا عن حالة «اللاتوازن» الاستراتيجي الرخوة التي يعيشها، وتتسبب في الكثير من القلاقل والحروب، من أخطرها ما نشهده في أوكرانيا، وما يختمر من مخاطر في مضيق تايوان؟
تدرك السعودية أن حجمها السياسي لا يوازي الاقتصادي، وأنها يجب أن تعمل من أجل تحقيق وزن سياسي إقليمي يكافئ وزنها الاقتصادي
حدة الاستقطاب
لقد تغيرت المراكز النسبية على خريطة توزيع القوة داخل الإقليم، وبين الإقليم والعالم خلال السنوات العشر الأخيرة على الأقل، كما زادت حدة الاستقطاب العربي – الايراني منذ عام 1979، والإسرائيلي- الإيراني منذ أوائل العقد الماضي، وصعد النفوذ الروسي إلى ذروة لم يبلغها منذ ستينيات القرن الماضي.
وانسحبت الولايات المتحدة عسكريا من سوريا والعراق وأفغانستان، وبلغ النفوذ الإسرائيلي ذروة لم يبلغها من قبل على الإطلاق، مع توقيع ما أطلق عليه دونالد ترامب «اتفاقيات إبراهام» بما يضفي على النفوذ السياسي الإسرائيلي طابعا دينيا كهنوتيا، يمنحه حصانة ربانية؟
حدث كل هذا بينما كانت المكانة الاقتصادية للسعودية إقليميا وعالميا ترتفع وتزداد قوة، وهو ما خلق فجوة في المكانة يجب العمل على تصحيحها.
ومع أننا لا نظن أن السعودية وهي تلقي بنفسها في معترك السباق على النفوذ في شرق المتوسط ستسير في الطريق نفسه الذي سارت فيه دولة الإمارات، التي تلعب في الملعب الإسرائيلي جهرا، فقد أصبح من الضروري تأمل سيناريو آخر، تسير فيه السعودية على طريق يكرس مصالحها المستقلة عن المصالح الإسرائيلية، ويزيد فاعلية دور القوى العربية في بناء توازن جديد للقوى في شرق البحر المتوسط، تمتد آثاره إلى حوض البحر المتوسط والبحر الأحمر والقرن الافريقي والخليج العربي وشمال المحيط الهندي.
علما بأننا لا نقول بإقامة نظام إقليمي عربي، ولكن بزيادة وزن الدور العربي في بناء نظام إقليمي مستقر يتسع للدول غير العربية، ففكرة إقامة نظام إقليمي عربي سقطت عمليا منذ غزو صدام للكويت عام 1990.
نظام متعدد الأطراف مستقر
وهنا نقول: لماذا لا لدور سعودي أكبر في السباق على النفوذ في شرق المتوسط، خصوصا أن الكفة مالت لغير صالح العرب، فالإمارات تلعب في الملعب الإسرائيلي، ومصر التي تنزف اقتصاديا خسرت بعض قوتها؛ ومن ثم فوجود السعودية قد يساعد على إعادة الميزان إلى نقطة توازن جديدة، بدلا من الخلل الراهن، تكون مكافئة لقوة المصالح العربية من دون تعدٍ أو عدوان على مصالح غيرهم.
يكون الدور السعودي تصويبا لسياسة الإمارات الشرق متوسطية، وتعويضا لضعف مصر حتى تسترد عافيتها، وتتمكن من تعبئة قدراتها الاستراتيجية في شرق المتوسط والبحر الأحمر على الوجه الصحيح.
الاستراتيجية الغائبة
ومن الضروري علينا أن نميز بين عدد من الاستراتيجيات والمشاريع الإقليمية الكبرى للشرق الأوسط، التي تتنافس على النفوذ في غياب صريح لاستراتيجية عربية مكتملة الأركان.
وعلينا أن نفحص على وجه الخصوص الفروق الجوهرية بين الاستراتيجيتين الأمريكية والإسرائيلية، حتى ندرك طبيعة هذه الفروق، وإمكانيات النفاذ من بينها إلى وضع أفضل، لا يهدف لإشعال صراعات إقليمية أوسع وأطول مدى، ولكن لبناء توازن إقليمي جديد على أسس براغماتية غير أيديولوجية، بما يسمح بمرونة كافية على صعيد صنع السياسات.
ويجب أن نشير هنا إلى أن مدرسة السياسة الواقعية real politique التي يعتبر هانز مورجنتاو وهنري كيسنجر، من أبرز رموزها في العصر الحديث، والتي تمتد جذورها تاريخيا إلى أرسطو، لم تحظ في العالم العربي كله باهتمام كبير، لا على صعيد الدراسات الأكاديمية الرصينة، ولا على صعيد عملية صنع السياسة.
وأظن أن الاسترشاد بمبادئها من شأنه أن يساعد إلى حد كبير على خروج المنطقة من حالة الاستقطاب الديني والقومي الحاد التي عاشت فيها معظم تاريخها.
وهذا يستلزم أن تتحرك السعودية نحو صياغة استراتيجية واضحة للسياسة الخارجية عموما، والسياسة الإقليمية في شرق المتوسط، والمناطق الفرعية الأخرى بما فيها الخليج، تتجاوز حدود «مبادرة السلام العربية»، وتتضمن انفتاحا على القوى غير العربية.
سيكون صيف العام الحالي مليئا بالنشاط لإعادة ترتيب مسرح التوازن الاستراتيجي في الشرق الأوسط
من الضروري كذلك تجنب الانزلاق إلى مواقف قصيرة الأجل، أو الوقوع في شرك الاستراتيجيات الأخرى المتنافسة، بما في ذلك الاستراتيجيتين الأمريكية والاسرائيلية.
على سبيل المثال، على الرغم من أن الولايات المتحدة وإسرائيل ترفضان أن تصبح إيران قادرة على امتلاك سلاح نووي، فإن الرفض الأمريكي يستند، من وجهة نظر واشنطن إلى مسؤوليتها عن ضمان حظر الانتشار النووي.
في حين أن موقف إسرائيل يستند إلى رغبتها في عدم السماح بظهور قوة إقليمية قادرة على منافستها وتحدي هيمنتها الإقليمية، واحتكارها للسلاح النووي.
ولذلك، فإن الولايات المتحدة تستبعد الخيار العسكري ضد إيران وتفضل الدبلوماسية، في حين أن إسرائيل تلوح دائما بالخيار العسكري، وتقدمه على ما عداه، وتضغط من داخل الكونغرس حتى يصبح خيارا رسميا للولايات المتحدة.
الإشارة السابقة مهمة لفهم الزيارة التي يتم الإعداد لها للرئيس الأمريكي بايدن إلى المنطقة.
ويبدو أن السعودية ليست بعيدة عن أهداف هذه الزيارة، لأن نائب وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان زار مؤخرا للولايات المتحدة والتقي فيها أركان الإدارة الأمريكية وقائد القيادة العسكرية الوسطى.
وقد ترافقت زيارته مع وجود وزير الدفاع الاسرائيلي بيني غانتس في الولايات المتحدة في الوقت نفسه.
باختصار، سيكون صيف العام الحالي مليئا بالنشاط على صعيد محاولة إعادة ترتيب مسرح التوازن الاستراتيجي في شرق المتوسط والشرق الأوسط بشكل عام، ومن المرجح أن يكون للسعودية دور كبير في هذا السياق.
وستكون جولة الأمير محمد بن سلمان المرتقبة في المنطقة منصة انطلاق للكثير من التطورات التي سنشهدها هذا الصيف على صعيد بنية التعاون الإقليمي سياسيا واقتصاديا وعسكريا.