صديقي المبروك يتمثل في الواقع، بمقولة ديستوفسكي “ثمة أوقات يكون فيها الحذاء أهم من بوشكين”!
في كل أربعة أو خمسة أشهر حين يترك محمد المبروك مقعده في القيادة السياسية لإحدي كتل التحالف الحاكم بالخرطوم ويتنازل طائعاً عن مساهمته في تحرير أرقي صُحفها ويترك قلمه وقُرَّاءه ويولي وجه شطر البادية..
نحو السِعِن ومضارب الناس والبَهَم..
يذهب إلى البادية ليفكر في علاجات ومخارجات لمشاكل المركز، ويعود للمركز ليفكر في حلول لتعقيدات وشائج البادية!
ينحو المبروك منحي صاحب الفجر الكاذب في نقده للنخبة – وما هي بنخبة – ويرى بأن عطبها مستقر ومستمر، ولكنه قابل للإصلاح عبر المؤسسات السياسية نفسها، ولكن بقيادات بديلة لا تنأي عن العمل العام.
أما النخبة الحاكمة، فيتعامل معها المبروك بوصية جعفر النميري العظيمة لسفيره في القاهرة بعد كامب ديڤيد في حفل الإسرائليين “خلوه يمشي الاحتفال، لكن ما يتعشى”!
المبروك يمارس السياسة بطريقتها التنظيمية التي عهدها الناس، ولكن يحتفظ لنفسه بحق النقد وحق الرد كذلك، وذلك لنزوعه البدوي نحو الخيارات البديلة، وعدم خضوعه لقساوة التنظيم وضبط المؤسسة، وربما أيضاً لعدم احتفائه – وربما لعدم اعترافه – بإمكانية الوصول إلى الكمال في السياسة، وفي بقية ضروب الحياة.
ويري – كما كان كانط يري أيضاً – أن (من الضلع المعوج للبشرية، لم ينتج أي شئ مستقيم تماماً)!
في (حدث في لاس فيغاس)، اصدارته الأخيرة، يتهادى المبروك في ثلاثية متوترة (مُدن العالم الأول ومركز العالم الثالث، ثم باديته التي لا تعترف بكلتيهما).
بين لاس فيغاس والخرطوم وبادية الكبابيش، في حالة نزوع دائم للحركة كما البندول، يصيح المبروك بصحبه:
“ذراني والفلاة بلا دليل/ وجهي والهجير بلا لثام/ فإني استريح بذي وهذي/ وأتعب بالإناخة والمقام”.
ما خطَّه محمد المبروك في مطبوعه الأول، عصيّ على التصنيف لأمثالي – غير المتخصصين – فلا هي مجموعة قصصية غير مرتبطة برباط بيِّن، ولا هي برواية مُتّصلة ولا هي بين ذلك، ولكن يتضح لكل ذي نظر، ذلك الخيط الرفيع الناظم من الحنين المشجون الذي يسبك – وينضم – حباب وحبات المجموعة مع بعضها.
لذلك، فالمجموعة – لمن تذوقها حقيقة – هي مثل غيوم المغيب الأرجوانية عند “كونديرا”، فهي (قادرة علي إضفاء ألق الحنين على كل شئ.. حتى على المقصلة).
لا تُلقِ السمع – يا صديقي المبروك – لمن يحدثك بأن عليك الإنقطاع والتفرغ للسياسة، وبإن الكتابة في هذه الإيام العجاف هي (شغلة عيال الحِلِة)!
أُكتب، فالكتابة ومنتجات الثقافة ومَضَاء الفكر، هي التي تُغير البؤس حينما تستقر في أفئدة السياسين والقادة.
أُكتب، لأن هدوء مكتب الأكاديمي – كما يؤكد هاينه – يمكنه أن يدمر حضارة.
إذن، يمكنه أن يبنيها كذلك.
* علي البدري – هندسة – جامعة الخرطوم