بعد 54 عاماً.. “مزحة” ميلان كونديرا تنتقم لنفسها
المدن – ثقافة* 2022/07/07
بعد الاجتياح العسكري لتشيكوسلوفاكيا من طرف قوات حلف وارسو بقيادة الاتحاد السوفياتي، وضع السوفيات في العام 1968 حدّاً لحريات وإصلاحات”ربيع براغ”، وألغوا – واحداً تلو الآخر – مقاييس وملامح “الاشتراكية ذات الوجه الإنساني”، مدشنين من جديد العودة إلى “الحرية الخاضعة للإشراف”، بما يعنيه ذلك من عودة ظهور اليد الحديدية للرقابة وسدّ المنافذ القليلة المتاحة للتعبير الحرّ.
قبل وصول السوفيات في آب/أغسطس 1968، أصدر ميلان كونديرا روايته الأولى بعنوان “المزحة”، معلناً بها حكماً نهائياً على تعسّف السلطة السياسية وموقفاً حاسماً من الحقبة الستالينية في تشيكوسلوفاكيا. بعد بضعة أشهر، تولّى المخرج الشاب آنذاك، ياروميل ييريش، إنجاز النسخة السينمائية من عمل كونديرا، مقدّماً شهادة حيّة على “ربيع براغ”. والآن، بعد 54 عاماً على صدوره، يُستعاد الفيلم رقمياً في نسخة مرممة تحت إشراف مؤسسة “أرشيف الفيلم الوطني”، عُرضت في القاعة الرئيسية لمهرجان كارلوفي فاري السينمائي، كأحد الأحداث الرئيسية من نسخته الأخيرة.
وفي تصريحات صحافية تعكس أهمية الفيلم، قال المدير الفني للمهرجان، كاريل أوش، لراديو براغ: “هذا الفيلم يثبت أن القائلين باستحالة تصوير فيلم جيد استناداً إلى رواية، ليسوا على حق. فيلم المزحة نضر جداً ومصُوَّر بطريقة حديثة، حتى من المنظور المعاصر”.
لكن، إلى جانب الأسماء الموجودة في قصة “المزحة” وتتراته، لماذا هو فيلم مرموق ومهم فعلاً؟
من بين أعمال كونديرا الكثيرة، لم يصل منها إلى الشاشة الكبيرة سوى روايتين، “المزحة” و”خفّة الكائن التي لا تُحتمل” (1988، فيليب كوفمان)، والفيلم الأخيرة لم يظهر إلا بعد حوالى عقدين من الزمن على نشر الرواية. والملفت في “المزحة” أن المخرج ياروميل ييريش، تعاون مع كونديرا نفسه في كتابة السيناريو، في حين استعان فيليب كوفمان بكاتب السيناريو المعتمد للمخرج لوي بونويل، جان كلود كاريير، لتكييف عمل لم يُصوَّر حتى في التشيك.
عُرض فيلم “المزحة” للمرة الأولى في التشيك في شباط/فبراير 1969. واعتُبرت الرواية المأخوذ عنها الفيلم “واحدة من أعظم روايات قرننا”، على حدّ تعبير الشاعر الشيوعي الفرنسي لوي أراغون (والذي روّج لها في الأوساط الفكرية الفرنسية)، ونُشرت في تشيكوسلوفاكيا العام 1967، وبيعت منها 120 ألف نسخة في وقت قصير، بينما حصل مؤلفها على جائزة اتحاد الكتاب التشيكوسلوفاكيين، برئاسة الشاعر ياروسلاف سيفرت، في ذلك الوقت. تغيّر كل شيء مع وصول السوفيات إلى السلطة، فاختفت الرواية من المكتبات وجرى استبعاد كونديرا، الذي تحوّل من كونه “وعداً شاباً” للأدب التشيكي، إلى أحد أسماء اللائحة السوداء للمحظورين في تشيكوسلوفاكيا، ما اضطره إلى العزف على البيانو في نوادي الجاز ليتمكّن من البقاء على قيد الحياة، حتى اختار المغادرة النهائية إلى منفاه الباريسي العام 1975.
لم يكن الانتقام هيّناً، وكذلك نقد كونديرا للسلطات السوفياتية. فقد كانت روايته عبارة عن هجاء حاد للشيوعية الستالينية، جُمعت خصائصه وتآلفت في شخصية لودفيك (الذي جسّده في الفيلم جوزيف سومر)، وهو شاب جامعي، وعضو في الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي، يحبّ زميلته الجميلة ماركيتا (يانا ديتيتوفا) التي تتركه لمدة 14 يوماً من أجل إتمام بعض حصص التلقين السياسي، وفي تلك الفترة يتبادلان الرسائل. في إحدى الرسائل، أرسل لودفك لحبيبته بطاقة بريدية كتب فيها “التفاؤل هو أفيون الشعب! الجو الصحي ينتن بالغباء! يحيا تروتسكي!”. مزحة بريئة؟ نكتة بلهاء؟ أياً يكن، فهذا الاستهزاء بتفاؤل ماركيتا، الحزبية الملتزمة، لم يرُق للقادة الذين لا يلبثون يطردونه من الجامعة والحزب، وهكذا يبدأ لودفيك تجوالاً في مصيره، متنقلاً -بين عثرة وأخرى- في عالم فقد روح الدعابة والسخرية، ساعياً كذلك للانتقام من صديقه وحبيبته اللذين صوّتا ضده في اجتماع طرده من الحزب والجامعة.
عمل كونديرا على نصّ روايته وخرج بنتائج مفاجئة، مجريًا فيها بعض التغييرات الأساسية من دون خيانتها. هكذا، على سبيل المثال، بدلاً من وجود 4 رواة ذاتيين، أبقى على واحد منهم فقط (لودفيك يان). كما امتلك الفيلم قيمة ثقافية واجتماعية ثمينة، بفضل اختيار مخرجه تصوير مشاهده الخارجية في الشارع. جرى التصوير خلال أحداث “ربيع براغ”، في عدد من المدن والأقاليم التشيكوسلوفاكية: فتظهر الساعة الفلكية في مدينة برنو، وساحة دار البلدية في أوهيرسكي هراديشت، بالتناوب مع معالم بارزة أخرى في العاصمة التشيكية، مثلما في ذلك المشهد الذي يتحادث فيه لودفيك وماركيتا على ضفاف نهر فلتافا الذي يظهر بين قصور ومبانٍ كثيفة في المركز التاريخي للمدينة.
وُلد ياروميل ييريش في براتيسلافا في 10 كانون الأول/ديسمبر 1935، ودرس الإخراج والكاميرا في مدرسة FAMU السينمائية حوالى العام 1960. وحتى ذلك الحين، كان قد أنجز فيلماً طويلاً بعنوان “الصرخة”(1963)، والعديد من الأفلام القصيرة التي سبقت إنتاج “المزحة”. ويُلاحظ في تلك الأعمال المبكرة، مقاربة المخرج لتفاهة الحياة اليومية، أو، كما هو الحال في فيلمه الأول، الاضطرابات النفسية والعاطفية التي يعانيها بعض الشباب عند إنجاب طفلهم الأول، وهو العمل الذي يعتبره كثيرون أول الأفلام المهمة في الموجة التشيكوسلوفاكية الجديدة، التي بدأ تشكُّل ملامحها الأولى منذ أوائل ستينيات القرن الماضي، وتميّزت بشيوع روح الكوميديا السوداء، واستخدام الممثلين غير المحترفين، والواقعية الفنية السينمائية.
في “المزحة”، استمر ييريش في خطّه الاجتماعي الواقعي، من خلال العديد من المشاهد التي تسخر من القيادة الشيوعية في البلاد وتنتقدها. كتب المنظّر السينمائي، آموس فوجل، أن الفيلم “ربما كان أقوى لائحة اتهام محطِّمة للاستبداد تخرُج من بلد شيوعي”.
رغم ذلك، فإن جان كليمنت، الناقد السينمائي الذي اعتُبر لسنوات عديدة، أهم “الجلّادين” في الحزب الشيوعي، والمبرّر العتيد للرقابة الأيديولوجية على العديد من عناوين “الموجة الجديدة”، كتب عن الفيلم مراجعة جيدة، قال فيها إن ييريش “يفهم المشكلة بشكل أفضل، ويشدّد على ما هو مفقود في الفيلم”. لكن المخرج لم يكن سعيداً بهذا النقد المادح، إذ اعتبر، جرياً على القول الشائع، أنه “إذا تحدث العدو بشكل جيد عن عملك، فهذا أمر سيء”. لكن هذا لم يكن كافياً لتجنُّب المنع. فعلى الرغم من نجاحه في الصالات، حُظر عرض الفيلم داخل تشيكوسلوفاكيا على مدار الأعوام العشرين التالية، ما جعله أحد أشهر ضحايا الموجة الجديدة.
لاقى الفيلم مصيراً مشابهاً للرواية الأصلية، التي بدورها لاقت مصير بطلها، باعتباره استعارة هجائية للأوضاع السياسية التي ندّدت بها الرواية، بالإضافة إلى المنع الذي لاحقها فور صدورها تقريباً. حُذف فيلم “المزحة” من فيلموغرافيا مخرجه في جميع الإذاعات والمحطات الرسمية، حتى سقوط الاتحاد السوفياتي. بعد الاستيلاء السوفياتي على تشيكوسلوفاكيا، اختار ييريش مواصلة مسيرته في بلده، بأعمال أقل إثارة للجدل والصِّدام مع السلطات. توفي ياروميل ييريش في العام 2001 عن عمر يناهز 66 عاماً؛ بعد تعرّضه لحادث سير تسبّب في إصابات في الرأس أدّت إلى موته.