رسالة نارية من مبارك أردول: إلى طباخي “تسوية دس السكاكين” الآحادية الفطيرة

تتسارع الخطى في البلاد عقب اعلان العسكريين الانسحاب من الحوار وانتظارهم للمدنيين للتوافق لتشكيل حكومة مدنية تقود الإنتقال وتحضر للانتخابات، وعقب ذلك الإعلان سعت الكتل السياسية المختلفة بتنظيم نفسها وكتابة مواثيقها واعلاناتها السياسية وكذلك دساتير بغية تقديمه كمشاريع لإدارة الإنتقال.
الناظر بعين فاحصة لهذه المشاريع، تتلخص حول فكرتين. الأولى: مشاريع لإدارة انتقال متعدد قصير ومحدد المواعيد ويؤدي في نهايته للانتخابات، أما الثاني: مشاريع آحادية لإدارة انتقال طويل يقود لانتخابات غير معلوم مواعيدها وتنظم وفق رؤية من يديرون الإنتقال.
لكل جهة من الجهات الحق في التطلع والحلم في ورث عرش البشير بعد سقوط نظامه، ولكن أيهما سيكون مستقرا ومستداما، هو السؤال المحوري.
ويتبادر سؤال آخر: لماذا لا يتعظ الناس كُتّاب هذه المشاريع من نظام البشير الذي امتلك من القوة ما يفوق كل هذه القوة التي تشكل المشهد مجتمعة ومن الظروف التي ايدته، ومن التنظيم الذي سد كل الفراغات تحت قيادة مركزية ايدلوجية موحدة، ومن المواثيق والحوارات وحتى الدساتير التي لم تتفوق عليه قوى اليوم، ولم يستطع مع كل ذلك، من توفير الاستدامة لنفسه ونظامه، وحتى مشروع الحرية والتغيير الذي تقدمنا به عقب سقوط نظام البشير كمشروع بديل، لماذا لم يصمد حتى لعامين، بل سقط نتيجة خلافات متعددة الجوانب بين المدنيين من جهة والعسكريين من جهة أخرى؟
الإجابة على الأسئلة أعلاه يجب أن تتضمن في المشاريع التي تبحث الاستدامة والاستقرار.
في جنوب أفريقيا، لم يسع حزب المؤتمر الوطني الافريقي من هندسة الإنتقال واقصاء حتى نظام “دي كلارك”، الذي مارس الفصل العنصري ضد السود. بل جعله ضمن الإنتقال. وأردف الأمر بالمصالحة الحقيقية والعفو، والتي جمعت كل المشتبه بهم والمشاركين في انتهاكات حقوق الإنسان وعالجته معالجة نهائية، جمعت كل أهل الضحايا وأفراد الحكم.
خرج “دي كلارك” وشارك جزءاً من النظام الجديد الذي جاء عبر انتقال حقيقي وانتخابات بعدها.
في السودان، مسألة الثورة والتغيير انتهت عقب سقوط نظام البشير، وما يجري الآن هي المحاولات التي يحاول أطرافها من تثبيت مشاريعهم الوريثة، وفي ذلك تنتظم مشاريع متعددة وينشط مشروع التسوية السياسية الآحادية هذه الأيام، والذي لم يتعظ من نظام البشير، ولم يتعلم حتى من تجربة الحرية والتغيير في أبريل 2019، فيحاول مهندسيه ومنسوبيه لطرح تسوية جديدة تتسم بالاقصاء، وتحدد الأطراف لتستولى على الحكم، ويدعمها بذلك سفارات وقوى دولية.
لا يعلم – أو يتجاهل – طباخي التسوية الحالية، من أن التسوية السابقة تقدّمها رئيس دولة إثيوبيا والاتحاد أفريقي ممثلاً في البروفيسور ولد لباد والمجتمع الإقليمي والدولي خلفه، ومع ذلك، كان طبخها فطيراً، انهار خلال عامين من داخله. دون الحاجة لتدخل من الخارج، لأنه بُني على قوى مُحددة، ممثلاً في الحرية والتغيير والعسكريّين، وتجاهل الواقع المتعدد.
الرفض والمعارضة لمشروع التسوية المتعددة الأطراف، تقوده قوى معلومة بطابعها الاقصائي منذ الاستقلال، ولم يصمد هذا المشروع منذ تأسيسه والاحتكار معروف، هو ضد الاستدامة والاستقرار، لذلك ستؤدي إلى تقصير أمد التسوية في حد زاتها عما قريب، وسيجعلها كسابقاتها عرضة للانهيار السريع، ورفضنا له هو رفض مبدئي، لأنه لا يستند إلا إلى دعم نخبوي مركزي، واللاهثين خلفه هم من يتسللون لكراسي الحكم دون حتى تفويض ثوري أو انتخابي، ويستخفون بالاحزاب السياسية المنطلقة من غير النخبة التاريخية التي استولت على الحكم، وضمنها حركات الكفاح المسلح الذي يستخفون بوجودها وحتى تأثيرها.
لن تقود مثل هذه التسويات لانتخابات أو استقرار أو سلام، ومثلها هي التي تسببت في انفصال الجنوب، لأن تركيبة القوى السياسية المكونة للتسوية، لا تمثل السودان كله. بل في خلاصتها جهات معينة وايدلوجيا معينة، لا جديد فيها.
قد يحكمون بقوة السلاح أو بالانتخابات الشكلية التي أقامها النظام السابق لمرات متعددة لاكتساب الشرعية، وقد تدعمه بعض القوى الدولية، لفترة معينة، ولكن مهما يكن لهم من تأييد، فلم يحظوا بفرص مثل النظام السابق والذي تعددت وكبرت المعارضة في وجهه كل يوم وتفكك بناءه الداخلي في صراعهم على السلطة بين أنفسهم حتى سقط بعد ثلاثين عاماً بعد انقسامات شهدها هو في نفسه، فلا يستقيم البناء الذي ساسه هش.
لن يفلح من يروجون للتسوية الآحادية الآن، يحاصرون عليه العسكريين، يغرون بعضهم، ويضغطون البعض الآخر، وكذلك يجبرون بعض حركات الكفاح المسلح ليبصموا عليه، رغم أنفهم، ولو استمروا فيه، فإنهم يبنونه على شفاة جرفٍ هارٍ وسنظل في مقاومته ونطرح تسوية سياسية شاملة تقود للانتخابات حقيقية، يشارك فيها الجميع دون حكر.
لن ندعم أية تسوية تقود لاحتكار الحياة السياسية، ولو حماها حتى أطراف المكون العسكري بعضهم أو جميعهم، لأنه لن يستديم وستكون تسوية دس السكاكين بين المشاركين فيه ليقضي كل طرف على الآخر عندما تحين الفرصة المناسبة.
أعلم إن قوى المجلس المركزي تتلاعب بملف الشهداء وملف فض الاعتصام للتكسب السياسي ومحاصرة العسكريين للقبول بهم وبإملاءاتهم كقوى حاكمة دون غيرهم، وتقول لهم سنوفر لكم الحصانات والضمانات، ولكن هذا الطرح هو مجرد غش ومهدئات تتزلف به للوصول إلى كراسي السلطة، وهم لايملكوا هذا الحق ليمنحوه لهم، وسيتمصلون منه حال وصولهم للسلطة وسينقلبوا على من يوقعون معهم اليوم أو من يحلفوا معهم الكتاب.
هؤلاء، كم من كتاب حلفوه، وكم من قسم رفعوا، ولكنهم حنثوا به لاحقاً وترجعوا عنه، وكما يقولون هم: السياسة ما فيها حليفة.
أما قضية الانتخابات وتفكيك التمكين التي يربطونها مع بعض، هو ربط مهترئ. فتجربة تفكيك التمكين التي ساندوها من قبل عبر اللجان السياسية التي حماها العسكريين، لم تفلح. بل تفككت عبر المنظومة العدلية والقضاء تحديداً. ولو عادوها فستتفكك لاحقاً. ولو أرادوا إقامتها عبر المحاكم، فلا حكم ديمقراطي ستدفع الحكومة التنفيذية لتقدم املاءات للقضاء والعدالة للاستعجال بالتفكيك، لأنهم لديهم انتخابات مربوطة بها، وهو اختلال بمبدأ الفصل بين السلطات، فالانتخابات مسار آخر لا يجب ربطه بالتفكيك مطلقا.
ما نطرحه، وهو الخيار الأفضل والمخرج للجميع. وهو تجميع كل هذه المشاريع في مشروع واحد يحقق الحد الأدنى من القبول ويجمع الطيف الأوسع من الأطراف دون حكر، لتقود الحكومة الانتقالية جهات متفق حولها من القوى السياسية دون ترك أو تجاهل قوى خلفنا، يقود لانتقال قصير ويؤدي لانتخابات حرة نزيهة في نهاية الفترة.
17 سبتمبر 2022

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.