ثقافة| الرواية بين الصحافة والسياسة والمال!

الرواية بين الصحافة والسياسة والمال!

 

ليلى عبدالله| النهار العربي

 

صرّح الروائي والناقد والصحافي الفرنسي الشهير إميل زولا مخاطباً قرّاءه: “إذا سألتني: ماذا جئت تفعل في هذا العالم، أنا الفنان؟ سأجيبك: أنا هنا لأعيش بصوت عالٍ”. تُرجمت العديد من رواياته إلى العربية، ومنها كتابه النقدي المثير للجدل “في الرواية ومسائل أخرى” مضمّناً عنواناً فرعيّاً “مقالات نقدية”، ترجمها عن الفرنسية حسين عجّة.

 

مقالات هذا الكتاب مأخوذة عن كتاب له بعنوان “حملة”، كما وضّح المترجم في المقال الأخير من الكتاب، حيث خصص إميل زولا عاماً كاملاً لعرض آرائه في الرواية وعن بعض الكتاب الشهيرين في زمنه مثل بلزاك وستندال وفيكتور هوغو وغوستاف فلوبير ومقارنة آراء بعض النقاد ومنهجهم في تناول حياة الكتاب.

يبدأ زولا حديثه الكاشف في فصل الرواية بعبارته المندفعة قائلاً: “في الماضي، كان أجمل ثناء يمكن أن نخص به روائيّاً يتمثل في القول: إنه يتمتّع بمخيلة. أما اليوم فيعد مثل هذا الثناء انتقاداً. ذلك أن جميع شروط الرواية قد تغيرت. ولم تعد المخيلة هي الخاصّية الرئيسة للروائي”.

 

 

في هذا الجانب النقدي لمسائل الرواية في الكتاب، يستعرض المنظّر إميل زولا آراءه الصارمة، بل المجحفة في آن. فعلى طول صفحات الكتاب ينتخب نوعاً واحداً من الأعمال الروائية تلك التي يعنى كتابها بالحس الواقعي، وما عدا ذلك جعله خارج مضمار الأدب الروائيّ!

 

وفق رأيه أنّ الرواية الطبيعية لا تُخترع اختراعاً ضمن نشاط رومنطيقي أو خيالي محض، بل تأخذ موضوعها من الواقع الخام، وهو الذي يُشبّه كتابة الرواية بكتابة محضر بالمعنى القضائي للكلمة، وقد عزز زولا تنظيراته بنماذج حية من روايات بعض الكتاب على رأسهم بلزاك وستندال، فهو يصفهما بأنهما عظيمان؛ لأنهما رسما ملامح حقبتهما وليس لأنهما أبدعا حكايات، وهما تحديداً كما يرى زولا عملا نقلاً مهمّاً لصورة الرواية بحسها الواقعي وبذلك لم تعد المخيلة شيئاً ذا شأن في كتابة الروايات.

وعرضَ مثالاً لأعمال الروائية جورج صاند التي تكتب حكايات عن العشق والغرام رغم انجذاب جمهور القراء لكتاباتها إلا أنها لا تبذل جهداً كبيراً في الكتابة فما تقوم به مجرد حفز المخيلة للكتابة على عكس كتّاب الحسية الواقعية، فهو يؤمن أن الموهبة لا تنبع مما يتخيله الروائي، بل من قدرته على تصوير الطبيعة بقوة، ويعنى هنا بمفردة الطبيعة هي رصد أحوال المجتمع والناس والظواهر بأكبر قدر من الموضوعية، بحيث تكون الرواية أشبه بدراسة حتى أنه في صفحات كتابه يرى أن مفردة الرواية غير دقيقة وتعبر عن المخيلة والخرافة واختلاق القصص، ويرى أن من الأنسب كتابة كلمة “دراسة” على أغلفة الروايات غير أن مساعيه في ذلك لم تفلح؛ فلكلمة “الرواية” تأثيرها الجبّار وبقيت خالدة على مر العصور!

 

يختم مقالته مدللّاً الى مدى جدية مساعيه في تغيير قوانين الرواية قائلاً: “مثلما كان يقال في الماضي عن الروائي يملك مخيلة، أطالب أنا اليوم بأن يقال إنه يمتلك الحس الواقعي، ولسوف يكون هذا الثناء أكبر وأكثر عدلاً”. من الطبيعي أن يؤكد نظريته، فهو الذي يرى أن الكاتب الروائي الذي يستند إلى المخيلة المحض في كتاباته مريض وطرفة من طرائف الأدب!

 

 

 

إميل زولا

 

منهج سانت بوف

أما في مقالته التي تعنى بالصيغة النقدية المطبقة على الرواية يكشف عن أسماء نقّاد مهمين في حقبته كسانت بوف ودولاهارب، عاقداً مقارنة بين منهجهما في تناول كتابات الروائيين ونقدهم، ونراه ينجذب بحماسة الى منهج سانت بوف النقدي، الذي حين يتناول روائيّاً ليستعرض كتاباته، يحرص على تتبع سيرة حياة هذا الكاتب، متابعة أدق تفاصيل حياته، وصلته بأهله ورفاقه واهتماماته، الإحاطة بجل أسراره، يمسك بالكاتب بصورة مطلقة كي يقدم نقداً كاملاً وشاملاً وكليّاً عن كتبه، فبدراسة الوسط الذي يعيش فيه الكاتب يمكن من تقديم صورة منصفة ودقيقة عن أفكاره وأدبه!

 

 

هكذا ينتبه القارئ الى أن بقية صفحات الكتاب بعد حديثه في مسائل الرواية ومنهجية نقدها مخصصة لسيرة حياة كاتبين شهيرين كستندال وغوستاف فلوبير، مشرّحاً بتفصيل أفكارهما الكتابية وتأثير كل منهما في الأدب والثقافة لا سيما في ما يتعلق بالجانب الواقعي الحسي في أعمالهما!

 

 

أما القسم الثاني من الكتاب فخصّصه للمسرح متناولاً كأنموذج الكتابات المسرحية للكاتب فيكتور هوغو ومدى الواقعية في أشهر مسرحياته، مؤكداً بذلك مساعيه المتحفزة لتأكيد نظرته بأهمية الطبيعية في كتابة الأدب ليكون عملاً رصيناً ومكتملاً من وجهة نظره.

 

 

وفي القسم الثالث من الكتاب، عنوان فرعي هو “الكاتب والعصر”، وأول مقالة في هذا الفصل حملت عنوان “المال في الأدب” حيث يرى أن كثيراً من الكتّاب في فرنسا في تلك الحقبة كانوا يسعون إلى دغدغة مشاعر الملوك في قصورهم، ليكسبوا لقمتهم، وقد كان هذا الفعل ينطبق حتى على الأثرياء منهم.

 

لقد كان بمثابة برستيج يحرص معظم الكتاب على تقليده، مفسراً زولا هذه الظاهرة بقوله: “لا يمكن للعمل الأدبي إعالة مؤلفه، الذي سيصبح بالتالي طيراً نادراً، لا يمتلك غير الملك وعلّية القوم وسيلة اقتنائه. كان ثمة عقد ضمني بين الحامي والمحمي، يلتزم بموجبه الحامي بإكساء من يحميه هو وإطعامه وإيوائه، أو أنه يكتفي بصرف معاش له؛ ويقوم المحمي، من جانبه، بتقديم المائح لحاميه، ويهديه أعماله، لكي يوصل اسم المتفضلين عليه إلى الأجيال اللاحقة”.

 

 

ولكن هناك بعض الكتاب ممن أنفوا بأنفسهم خوض هذا الغمار كبلزاك الذي اعتبره زولا حالة استثنائية، باعتبار أن بلزاك كان صانعاً حقيقيّاً، يصنع الكتب من أجل تشريف اسمه وتعظيم مكانته بأدبه.

 

 

وبهذا يؤكد أن منظومة الحماية والحاجة إلى راتب من الحكومة بدأ تأثيرها يتراجع حين رخصت أسعار الكتب فصار بإمكان الجميع القراءة، ومع انتشار الصحف حظي بعض الكتاب بوظائف عبر نشر مقالاتهم المتنوعة في المجالات الأدبية المختلفة، مؤكداً أهمية المال لدعم الكاتب والثقافة معاً.

 

 

 

بلزاك

 

في السياسة

أما في بقية مقالاته والتي تحمل عناوين أدبية غير أن مضمونها يكاد أن يكون سياسيّاً، لقد جاءت آراء إميل زولا السياسية في هذا الكتاب بمثابة تنبؤ لمستقبل الحالة السياسية الراهنة في وقتنا الراهن، فقد صارت معظم الصحف تعنى بالشؤون السياسية على حساب الأدب والثقافة التي صارت صفحاتها تتقلص مع الزمن، وصار الكتاب الشبان الذين يعنون بالكتابة السياسية أكثر طلباً من الكتاب الذين اختاروا كتابة الأدب فحسب، وارداً بذلك حديثاً له مع رئيس تحرير إحدى الصحف الجديدة متحدثاً بمرارة عن أسرة تحرير الصحيفة، سائلاً زولا انتخاب أسماء بعض الكتاب الشباب الموهوبين للعمل في الجريدة، وحين ذكر له بعض الأسماء، دمدم الرجل بقوله: “أوه، أديب آخر! أنا أبحث عن شاب يتمتع بموهبة كبيرة يتفرغ بصورة كاملة للسياسة” فرد عليه زولا وقد عيل صبره: “هل تظن أن شاباً يمتلك موهبة كبيرة سيرضى لنفسه الخوض في مطبخكم السياسي القذر؟”.

 

ويبدو أن حديثه الفاضح في الشأن السياسي هو الذي قاده الى نهايته، فقد مات إميل زولا مخنوقً ًبعد استنشاقه غاز أول أوكسيد الكربون الذي انبعث عندما توقفت إحدى مداخن المنزل، وقد شك البعض في كونها عملية اغتيال، غير أن التحقيقات وقتئذ لم تكشف شيئاً، ولكن بعد عشرات السنين اعترف ساكن من سكان باريس وهو على فراش الموت أنه هو من أغلق فوهة المدخنة لأسباب سياسية!

 

 

قدّم إميل زولا في كتابه “في الرواية ومسائل أخرى” منهجاً جريئاً لتناول الأدب والروايات بعيداً من المناهج والأساليب المعتادة، فهو يؤمن بتغير الأزمنة والتي تجرّ معها بالضرورة تغيراً في جوانب الحياة والفن والفكر والثقافة وأحوال الناس أيضاً، وحدها السياسة والسياسيون هم الباقون على مطامعهم واستبدادهم وجحودهم، يظلون قابعين في مستنقع تأسن فيه كل أنواع النذالة والجبن الإنساني مستثنيّاً بعض النماذج السياسية النادرة مثل أولئك المنادين بالعدالة والحرية والإنصاف طوال مشوارهم السياسي!

ليلى عبدالله. كاتبة من سلطنة عمان

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.