قصة قصيرة | “نخلة على الجدول”.. الطيب صالح

“عشرون جنيهاً يا رجل، تحل منها ما عليك من دين، وتصلح بها حالك. وغداً العيد، وأنت لم تشتر بعد كبش الأضحية! واقسم أنّني لو لم أرد مساعدتك، فان هذه النخلة لا تساوي عشرة جنيهات”.

وتمايلَ حُمار حسين التاجر في وقفته. ولم يكن صاحبه قد ترجّل عنه، فإنه لم يرد أن يظهر لشيخ محجوب تلهفّه على شراء النخلة ذات البنات الخمس، التي يسميّها السودانيون في الشمال (الأساسق)، وقد قامت وسطها النخلة الأم، ممشُوقة متغطرسة. تتلاعب بغدائرها النسمات الباردة التي هبت من الشمال، تحمل قطرات من مياه النيل.

رأى الحمار الأبيض البدين، حمارة أنثى ترعى من بعيد بين سيقان الذرة. فنهق نهيقاً أجهش، تم رفع رجله الخلفية اليسرى ووضعها، ورفع رجله الأمامية اليمنى ووقف في حافة حافره، وتشاغل بخصل من نبات (السِعْدَة) الريانة التي نمت على حافة الجدول، وكأنه قد تبرم بهذه المساومة التي لم يكن ورائها طائل.

والحق، أنّ حسين التاجر، بثيابه البيضاء الفضفاضة، وعباءته السوداء التي اشتراها في زيارة له للخرطوم، وعمامته من (الكِرِبْ) نمرة واحدة، وحذائه الأحمر التي لم تخرج أيدي صناع المراكيب في الفاشر أجود منه، وحماره الأبيض البدين اللامع، والسرج الأحمر المَذهّن، والفروة البُنيّة التي تدلت وكادت تمس الأرض. كانت صورة مجسّمة للكبرياء والغطرسة.

شيخ محجوب لم يحر جواباً، وكان يبدوا في وقفته تلك كالمشدود، يرنو إلى أفق بعيد متناه. ورويداً رويداً خفتت في أذنه ضوضاء أهل الخير الذين جاؤوا ليتوسّطوا بين التاجر وشيخ محجوب، وخفت صوت الساقية الحزين المتصل. ولفّ ضباب الذكريات معالم الأشياء الممتدة أمام ناظري شيخ محجوب. الناس والبهائم وغابة النخيل الكثّة المتلاصقة، وأحواض الذرة الناضجة التي لم تُحصد بعد، والأحواض الجرداء العارية قطعت منها الذرة، وسرحت على بقاياها قطعان الضأن والماعز.

كل ذلك تحوّل إلى أشباح يتراقص في وسطها جريد نخل محجوب. وفي أقل من لمحة الطرف، استعرض الرجل حاضره. أجل، غداً عيد الأضحى حينما يخرج الناس مع شروق الشمس في ثيابهم النظيفة البيضاء الجديدة، ويصلون مجتمعين على مقربة من ضريح الشيخ صالح. وإذ يعودون إلى بيوتهم، تنضح وجوههم بالبِشر والسعادة، وتسيل دماء الأضاحي، ويقبل الأضياف ويخرجون، ويتردد في الحي صدى ضحكاتهم، أما هو.. أما بيته..؟

إنّه لا يملك ثوباً نظيفا يخرج به إلى الصلاة، وليس عند زوجته غير “ثوب زُراق” نال منه البِلى وتراكمت عليه الأوساخ. أما ابنته خديجة فقد كادت تفتت قلبه ببكائها من أجل ثوب جديد تعرضه على والدتها وتعيد به مع صاحباتها. ومن أين له جنيهات ثلاثة يشتري بها خروفاً يضحي به؟

وتمتم شيخ محجوب في صوت لا يكاد يسمع، شيء يشبه التوسل والابتهال: (يفتح الله) وزمّ شفتيه في عصبية، وعاد بعقله خمسة وعشرون عاما إلى الوراء. إلا ما أعجبه تقلبات هذا الزمن. لقد كان يومئذ شاباً قوياً أعزباً لم يبلغ الثلاثين بعد، يعمل في ساقية أبيه مقابل كسوته وشرابه. فلم يكن يحتاج إلى المال، ولم يكن له قيمة.

وفي ذات صباح مشرق من أصباح الصيف، مرّ بابن عمه إسماعيل، وكان الأخير منهمكاً بقلع الشتل ليغرسه في أماكن أخرى من أرض الساقية. ووقع نظر محجوب على شتلة صغيرة رماها إسماعيل بعيداً، على إنها خالية من (الأضراس) لا تصلح. فالتقطها محجوب ونفض عنها التراب، وقال لابن عمه ضاحكاً: باكر تشوف دي تبقى تمرة زي العجب. وتبسّم إسماعيل في سخرية، واستغرق في عمله. وعلى حافة الجدول وقريباً من الساقية، شقّ محجوب حفرة صغيرة ووضع فيها (النخيلة)، وواراها التراب وفتح لها الماء بعد أن تلا آيات من القرآن، مثلما يفعل أبوه كلما غرس شتلة أو حصد نبتا. ولم ينس أن يصب في الحفرة قليلاً من ماء الإبريق الذي يتوضأ بها أبوه تيمناً وتبركاً.

انتزع محجوب غصة صعدت في حلقه، تم مرر أصابع يديه النحيلة المعروقة بين شعيرات لحيته المتفرقة.

إلَا ما كان أبرك ذلك العام!

بعد ستة أشهر فقط من غرس (النخيلة)، تزوج ابنة عمه، ولم يكن يملك من مال الدنيا شروى نقير. ولا هو يدري إلى الآن كيف تمت المعجزة. انه لم يكن يظن أبداً أنّه سيتزوج في يوم من الأيام، وهو الذي عاش أيام صباه منبوذاً محتقراً من أهله مجفُواً من الحِسان، يتهمه كل أحد بالغباء والخيبة. وطالما ترنم وهو يخوض الماء في لذعة البرد، عاري الرأس عاري الصدر: “الدنيا بتهينك والزمان يرويك/ وقِل المال يفرقك من بنات واديك”.

غير أنه تزوج، ولبس حريرة العرس، وتمسّح بالدلكة، ووضع على رأسه الضريرة، وأحاطت به الصبايا يهجزن بالأغاني. ولكم شعر بالعظمة والكبرياء وقتها. كل ذلك بعد غرس النخلة بستة أشهر، وفي العام التالي ولدت زوجته بنتاً اسماها آمنة تيمنا بمقدمها، ووفاء لذكرى جدته التي كانت تعطف عليه من بين أهله جميعاً، وحينما وصل به تيار الذكريات لمولد آمنة، ترقرق في عينيه الدمع. أين الآن آمنة؟ إنّها زوجة لابن أخته، الذي حملها إلى أقاصي الصعيد في الجزيرة، وقد كانت تبرّه وتعطف عليه.

ليت حسن كان مثلها عطوفا باراً.

حسن!

وعضّ الرجل على شفته السفلى بعنف، حتى كاد يغرس أسنانه في لحمها المتهدل. حسن ابنه الوحيد، سافر قبل خمسة أعوام إلى مصر، ومن وقتها لم يرسل لهم حتى خطاباً واحداً يطمئنهم فيه عن صحته. لقد حاول الرجل جاهداً أن ينساه، ويمحوه من ذاكرته، ويعده من الأموات. وكانت زوجته تبكي كلماً ردّد محجوب في صوت حزين متهدّج بيت الدوبيت الذي كان له خير سلوى، كلما جاشت بنفسه الذكرى، وكلما تمثل ابنه طفلاً صغيراً حلواً يبول في حجره، ثمّ صبياً يساعده في أعمال الساقية، تم شاباً يافعاً يشب عن الطوق، ويهجر الأهل والدار، وينسى حقوق الأبوة، ولا يسأل عن الأحياء ولا الأموات. أجل والله.. (الزول إن آباك خليه وأقنع منه، وكم لله من دفن الجنى وفات منه).

وكأنّ القدر أراد أن ينسيهم كل شيء يربطهم بحسن، فرمى آخر ما في جعبته من سهامه قاسية مسمومة ظل يسددها مند عامين، تباعاً ودون توقف. وأصاب السهم الأخير النعجة (البرقاء) التي ربّاها حسن، وجمع لها الحشيش وأشركها طعامه وأنامها فراشه. ماتت وما عادت تثغو في بكرة الصباح حين كان حسن يقفز نشيطاً خفيفاً من فراشه فيطعمها ويسقيها ويأخذها معه إلى الساقية، ترعى وتمرح وتتلف الزرع ريثما يفرغ هو من عمله. ماتت، وكذلك اجتاح المحل والقحط كل القطيع الذي رباه شيخ محجوب.

ثم رفرف طائف من السعادة على الوجه الخشن المجعد، وجه محجوب. وغابة المرارة التي أحدثها ذكر حسن، عندما تذكّر الرجل قطيع الغنم الذي ربّاه في ذات العام، شهد مولد آمنة. قطيع كامل من نعجة واحدة اشتراها بما تجمع عنده من ثمن حيضان البصل. كان يعاملها كما يعامل أبناءه، يحلب لبنها بنفسه ويكوّم القش من مراحها ويفك لها صغارها ويلبث الساعة والساعتين يداعبها وينظف وبرها، وتغمره السعادة وهو يشاهدها تناغي صغارها وتشرب الماء المخلوط بالدريش، وتتناطح فيما بينها. كان يطلق عليها الأسماء كما يسمي الناس أطفالهم، يعرف كل واحدة منها بسيماها ذات الذيل الأبيض، وذات القبعة السوداء والخروف ذو القرون المكسورة، والخروف ذو القرون الملتوية. وبعد عامين من زواجه، اشترى عجلة صغيرة عجفاء، حتى صارت بقرة جميلة كحيلة العين، لها غرة في جبينها تجر الساقية وتدر اللبن.

وفي أثناء ذلك، أثمرت نخلة الجدول، أول شيء يمتلكه في حياته. وسارت الحياة رغداً كأنما استجاب الله دعاءه يوم شق في الأرض على حافة الجدول وغرس النخلة. لقد استغنى عن أبيه وبنى لنفسه بيتاً يؤويه مع عائلته، وصار ثرياً يعد المالك مثل أي تاجر، يجلس في السوق منتصباً تملأه الثقة أمام كوم الذرة، يكيل منه للمشترين وينتهر زملاءه غير هياب ولا مكترث. وصار يلبس النظيف ويأكل الطيب، وينام على الفراش اللين ويتدثر في برد الشتاء ببطانية ثقيلة من الصوف انفق فيها جنيهين. وحينما كان الناس يتبرعون في الأعراس بخمسة قروش كان هو يتبرع بعشرة، وبزجاجة مليئة بسمن الضأن النقي، وكيلة من أجود أنواع التمر (القنديل) حتى يلقب بالظريف بعد أن كان يلقب بالغبي. ولولا تعلقه بزوجته، لتزوج بنتاً بكراً يتهافت عليها خيرة شباب البلدة. كل هذا عفا على أثار الزمن.

لقد مات الزرع، ويبس الضرع، وعم القحط فاغرق الرخاء، فحبا الشيب فطغى على الشباب، وكان النيل يفيض بين ضفتيه زاخراً موارى، يسقي الأرض ويخرج ما في بطنها من الخير، فما عاد يفيض إلا بحساب ومقدار، أتراها الخزانات التي أقاموها عليه فحجزت الماء؟ أم تراها نبوءة الشيخ ود دوليب تحققت؟ لقد أنذر الناس في يوم من الأيام انه سيأتي عليهم يوم، يصير فيه اللبن كثيرٌ تافهٌ مثل الماء، وتصير كيلة الذرة بقرشين ويصبح تمن النعجة ريالين. ولكن الناس كدأبهم أبداً سيضيقون بهذا الخير، وسينهمكون في الغي وينسون الله، فيأخذهم الله في ذنوبهم.

وفكر شيخ محجوب برهة، وحدّث نفسه بأنه لم يرتكب كثيراً من المعاصي. صحيح أنّه كان يشرب الخمر أحياناً ويرقص في الأعراس ويخالس الحسان النظر على غفلة من أم حسن. ولكنه لم يؤخر فرضاً ولم يهتك عرضاً ولم يفعل شيئاً من هذه المعاصي التي يقول عليها فقهاء القرية أنها كبائر وتغضب الله. لابد أنّه الكبر الذي فتّ في عضده وأرخى من مفاصله، فما عاد يحتمل لدغة البرد ولا قائظ الحر. ولم يكن حريصاً على ما عنده من خير، فبدّده أولاً بأول. وفي غمرة أتعابه ومرير شيخوخته، هجره ابنه حسن، وهو أحوج ما يكون إلى ساعده الفتي.

وهكذا..

ظلّ محجوب يكابد الفاقة وحده، فاستدان ورهن وباع. وليس عنده اليوم من مال الدنيا إلا بقرة واحدة وعنزتان وهذه النخلة التي ظل جاهداً استبقاءها. وقطع عليه ذكرياته نهيق حمار التاجر، وصوت صاحب الحمار وهو يقول له: يا رجل ساكت زي الأبله مالك؟ ما تدينا كلمة واحدة خلينا نمشي؟

كان رمضان قد جاء من طرف الساقية، وقال لمحجوب، إنّ عشرين جنيها ثمن معقول، خاصة وهو أحوج ما يكون إلى المال. وفكر الرجل برهة متردداً بين الرفض والقبول. عشرون جنيها يقدر أن يحل منها دينه، ويشتري ضحية العيد، ويكسوا نفسه وأهل بيته. ولكن ريحاً قوية هبت تتلاعب بجريد النخلة، فأخذ يوشوش ويتعارك ويتلاطم كغريق يطلب النجاة. وبدت النخلة لمحجوب في وقفتها تلك، رائعة وأجمل من أي شيء في الوجود. وهفا قلبه لابنه في مصر.

ترى هل يحن لنداء الرحم؟ هل تؤثر في قلبه الدعوات التي أرسلها محجوب في هجأة الليل، وأحس الرجل بفيض من الأمل يملأ كيانه ويطغى على إحساسه، وترقرق في عينيه دمع حبسه جاهداً، وتمتم (يفتح الله. أنا تمرتي ما ببيعا). وردد الرجل في نفسه (يفتح الله)، وقاده ذلك إلى التفكير في سورة الفتح من القرآن الكريم (إنا فتحنا لك فتحا مبينا).

أحس لأول مرة بأن في كلمة (يفتح الله)، شيئاً أكثر من كلمة تنهي بها المبايعة، وتقفل الباب في وجه من يريد الشراء. إنها مفتاح لمن أعسره الضيق وأمضاه البؤس واثقلت كاهله أعباء الحياة. وما كان أحوج محجوب إلى الفتح والفرج حينئذ، وجذب التاجر عنان حماره في صلف، ثم همز بطن الحمار بكعب رجله، وقال في صوت بارد كوقعة الصوت: يفتح الله، يفتح الله، باكر تجي تفتش الدّين.

وقبل أن يغادر، أبصر محجوب ابنته الصغيرة تهرول نحوه مضطربة فرحة. فتحرك في قلبه أمل بدأ عسيراً مستحيلاً، أبعده عنه. ولم ينتظر الطفلة ريثما تصل، بل أسرع نحوها يسألها عن الخبر شنو، مالك؟

حاولت الصبية أن تفض إليه النبأ بصوت متكسر ألثغ: “الناس.. دالو ولد ست البنات دا من مَسر، وداب لينا معاه دواب من حسن أخوي”.

جواب من حسن؟

وانطلق الرجل كالمجنون لا يفكر ولا يعي بنبض قلبه معربداً بين جنبيه. يطغى الأمل بين حناياه، وابنته الصغيرة تمسك بطرف ثوبه المتسخ، وتسرع جاهدة لكي تمشي معه، وهي أثناء ذلك تتباكى محتجة على خطوات أبيها المسرعة.

وفي بيت ناس ست البنات، انتظر محجوب بين صفوف المستقبلين. في غمرة اضطرابه ولم يفت عينه المستطلعة رجال يعرفهم جاؤوا يسألون عن أبنائهم وأقاربهم، ونسوة يعرفهن جئن يسألن عن أزواجهن وأبنائهن، كلهم آمال مثل أماله، تجاذب اليأس ويغالبها اليأس. ولم تخطئ عينيه الشاب الذي عاد من مصر، ولد ست البنات يرتدي ملابس نظيفة ككل عائد من السفر، ويتكلم لهجة غريبة.

وأخيراً، لمح الشاب شيخ محجوب بين المستقبلين، فدلف نحوه مبتسماً. وشعر الرجل بالضيق والحرج. إذ تحولت كل الأبصار نحوه. ولم يع شيخ محجوب من كلامه يحدثه إلّا: “حسن مبسوط. قال ليك تعفي عنو. ورسّل ليك ثلاثين جنيه وطرد ملابس”.

في الطريق إلى بيته، تحسّس الرجل رزمة المال التي صرّها جيداً في طرف ثوبه. غرس أصابعه في الطرد السمين تحت إبطه  وانحدر طرفه إلى غابة النخل الكثيفة، ممشوقة متغطرسة جميلة تتلاعب بجريدها نسمات الشمال، وخيّل إليه أن سعف النخلة يرتجف مسبحاً: “يفتح الله، يفتح الله”.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.